الطيران- من آلة حرب إلى جسر سلام بين الأمم

المؤلف: منيف الحربي09.03.2025
الطيران- من آلة حرب إلى جسر سلام بين الأمم

إن الصلة بين الطيران والحروب علاقة راسخة، وإن كانت مشوبة بالكثير من المرارة. فمنذ بزوغ فجرها، لم تتبلور فكرة الطائرات في التحليق فوق الغيوم الشاسعة أو استكشاف القارات المترامية الأطراف؛ بل نشأت كأداة قتال ضروس، شأنها شأن المدافع والبنادق الفتاكة. لم تكن الطائرات تحمل الحقائب والأمتعة، بل كانت تنقل القنابل المدمرة، وكانت رمزًا جليًا للتفوق العسكري لدى الجيوش الحديثة.

خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، استُخدمت الطائرات في عمليات الاستطلاع الحساسة، ثم تطورت لاحقًا لحمل القنابل المدوية والانخراط في المعارك الجوية الضارية. في تلك الحقبة، ظهرت مقاتلات بريطانية وألمانية، إيذانًا ببدء أولى حروب الأجواء الطاحنة. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لترسخ حقيقة أن السيطرة على الفضاء تعني التفوق المطلق على الأرض، ويتجلى ذلك في استخدام القاذفة الأمريكية B-29 لإلقاء القنبلة الذرية الرهيبة على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين. وها هي طائرات B-2 تعود في هذا الأسبوع، في مشهد يثير القشعريرة، لتنفيذ مهمة دقيقة ضد المواقع النووية الإيرانية، وكأن التاريخ يعيد نفسه في حلقة مفرغة لا تنتهي.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية المدمرة، تبدلت نظرة البشر لهذا الاختراع العظيم، وبدأت التوجهات الفكرية تتجه نحو تحويله من آلة رعب تزرع الموت والدمار إلى أداة سلام تنشر الوئام والازدهار.

جرى تعديل بعض الطائرات العسكرية الغاضبة لاستخدامها في نقل الركاب والبضائع، كما هو الحال في طائرة داكوتا DC-3 الشهيرة، التي دخلت عالم الطيران المدني في الأربعينيات بعد أن كانت في الأصل طائرة عسكرية ذات مهام قتالية.

خلعت الطائرة بذلتها العسكرية المموهة، وارتدت زيًا أنيقًا يمثل طاقم الضيافة، وتحولت المطارات من ثكنات عسكرية ومخازن للبارود إلى صالات انتظار فسيحة وأكشاك لبيع القهوة المنعشة. وهكذا بدأت قصة الطيران المدني، الذي نما وتطور تدريجيًا حتى أصبح اليوم أحد الدعائم الأساسية التي تستند إليها الحياة الحديثة. ومع التقدم المذهل في تقنيات الملاحة الجوية وتوحيد قوانين الطيران، أصبحت الأجواء أكثر أمانًا، وأضحت الطائرات الوسيلة المفضلة للسفر والتنقل بين أرجاء العالم.

على الرغم من هذا التحول العميق، لا تزال الحرب تشكل تهديدًا للطيران، فمع كل توتر إقليمي أو نزاع مسلح، تطل بوجهها الكالح؛ تُغلق الأجواء، وتتغير المسارات الجوية، ويُحتجز الركاب المرهقون خلف أسوار الانتظار القاتلة.

لقد وُلد الطيران في خضم المعارك الطاحنة، ولكن قدره الحقيقي أن يكون جسرًا متينًا يربط بين الأمم والشعوب، لا حاجزًا منيعًا يفصل بينها.

من رماد الحروب المدمرة، انطلقت أعظم شركات الطيران، ومن أزيز المقاتلات المرعبة انبثق حلم معانقة الغيم في رواية سلام أبدية. لقد نجح الطيران في إعادة تعريف نفسه بشكل جذري، ولم يعد صوت المحركات يثير الذعر والفزع، بل أصبح مصدر طمأنينة لكل قلب يترقب لحظة الوصول.

البلدان التي كانت بالأمس ساحات قتال ضارية، أضحت اليوم مراكز رئيسية لصناعة الطيران العالمي، فمدن مثل هامبورغ وتولوز وسياتل، تحتضن مصانع عملاقة تنتج طائرات لا تحمل من السلاح سوى سلاح الطموح الإنساني النبيل.

ويبقى الدرس الأهم هو أن الحروب، على الرغم من كونها قد تكون مصدرًا للابتكار، إلا أنها تعيق مسيرة الحياة. وأن الحفاظ على أجواء آمنة ومفتوحة ليس مجرد ضرورة لقطاع النقل الجوي، بل هو التزام حضاري راسخ. فالطيران لم يعد مجرد رفاهية، بل هو حق أصيل من حقوق الإنسان في الحركة والانتقال بحرية وأمان.

اليوم، تتجدد الحاجة الملحة لتكريس الطيران المدني كرمز للسلام العالمي. فالسماء، التي تتحول أحيانًا إلى ساحات قتال دامية، هي في الأصل فضاء للوصل والتواصل، وكل رحلة تنطلق من مطار إلى آخر، هي خيط ذهبي في نسيج الحياة، يعمل على إصلاح ما أحدثته القنابل من شقوق في جسد الأرض.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة